أبعدُ مما يَفعلنّ
17th Oct 2023 by
أبعدُ مما يَفعلنّ
د.إشراق سامي
طالما توقفتُ، كثيراً، عند باب الهُويّة. إنّه سؤال غير واضح، ولذا ستكون الإجابة عنه مرتبكة. أنا من جيل كانت الأم فيه مُتعلِمة، في الغالب، تمارس وظيفة ما؛ لذا أدركت منذ عُمْر مُبكِر أنّ أمي تُميّز هُويتها ببساطة، عن جدتي مثلاً؛ فهي كائن أكثر قدرة على خوض الحياة، وتملك استقلالها الماديّ، مما يجعلها تُدرك حدود كرامتها الواضحة؛ فهي ليست رهينة الحاجة إلى أحد. امرأة حُرّة بزيّ مُتحضِر، ونطرة نِدية للرجل، الذي تشاركه البناء، وتسانده في الحياة، ربّما، أكبر من الطريقة التي يسندها هو فيها. هذا الأمر وفّر لنا استقراراً نفسيّاً هائلاً، في هذا الجانب، أعني نحن الفتيات، اللواتي لم نكن بخجلٍ، مما يمسّ هويتنا الجندرية. بل العكس، ثمة عفويّة، وثقة في طرائق تعاملنا مع الآخر (الرجل). كنت أستطيعُ أنْ أتنقل عِبر سيارات الأجرة مثلاً، دون خوف، حتى لحظة التغيير السياسيّ الكبير، الذي تعبته تغييرات أخرى في بنية المجتمع، وربّما النظام القيميّ الجمعيّ فيه؛ إذ كان الانفلات الأمنيّ ظاهرة واضحة. وهي ظاهرة تحيل إلى مفهوم آخر، هو الخوف. الخوف من أنْ نكون عرضة لأيّ نوع من العنف، أو الابتزاز أو الأذى. الوضع المربك فتح باب التشدد بقوة، وخلال السنوات الأولى كانت السيدات، في الغالب، في استجابة غير مُعانِدة لفكرة (الستر)، التي تتمثل فيها، محاولة النجاة من قوانين محلية قديمة، تبنتها العشيرة، والمناطق التي كانت بعيدة عن التأثير الحضاريّ المُتمدِن، ولاسيما مع تولى زمام الأمور التيارات الرادكالية. هُويّة المرأة، هنا، هي إنسان ضعيف، خائف. وللفرار، من هذه الزاوية، كانت هناك طريقتان، الأولى بالمواجهة النبيلة. والثانية باستدراج الوضع، وتجييره. أظن الأولى كانت واضحة بشكل مجسد على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ اذ تنبهت المرأة إلى قدرتها في امتلاك الرأي، والتعبير عنه، والتأثير، أيضاً، عبر صفحاتها الخاصة. وفيما بعد تبعتها حركات معارضة، سواء أكانت المظاهرات أم المطالبات التي تقوم بها المنظمات، بين فترة وأخرى، لتشريع قوانين معينة. إذن ثمة هُويّة نسويّة مدنيّة، حاولتْ استعادة توازنها. وفيها ميزات معينة، أهمها التعلّم، والاستقلال الاقتصاديّ. أما الثانية فكانت تمشي مع الفساد المُنظَم، المُقنَع، الذي أنتجته الدولة بكلها المُنفلت، وفيه رفض لطرائق التفكير التحرريّة، وانقلاب على القيم النسويّة. وهي تظهر بأساليب ضمنية، في المجتمع، عِبر الدخول في لعبة انزلاق القيم، واستسهال الحصول على الغنائم، عِبر المجاراة والتلاعب. إذن التجارب العنيفة، وعدم الاستقرار، لفترة طويلة، انعكس على تلك الصورة، التي يرسمها المجتمع للمرأة، وبالتالي عن صورتها، هي نفسها، أو كما تسمى هُويّتها. أنا، بشكل شخصيّ، كنت من الذين خاضوا الأشياء بوعيّ، وربّما بطريقة مُعانِدة، ولكنّها، أيضاً، ناعمة لا تشبه المواجهات العالية، أو الشعارات الرنانة؛ فلم أنتظم ضمن منظمة نسويّة، أو أحاضر في حقوق المرأة. لكني كنتُ، دائماً، حريصةً على الإمساك بذلك الخيط الرقيق الفاصل بين إنسانيتي، وبين الجندر الثقافيّ، الذي يحدد لي باستعلاء كيف أتصرف، وبماذا أهتم، وطريقة كلامي المفروضة، وطريقة إحساسي، ونظرتي للأشياء. وهذا الخيط وفرّ لي حُريّة خاصة، في النظر نحو الأمور، وأخْذِ مسافة أمان منها؛ لذا مارستُ حياتي، بطريقة تُشبهني. وكنتُ كما أنا. هذا جعل مني مُختلِفة، اختلافاً مُحبَبَاً. أتلقى، دائماً، وباستمرار كلمات الإعجاب، والمحبة، لكنّي، في المقابل، أجد أني تحركتُ أبعد، مما تفعل المحيطات بي.
دكتورة اشراق سامي: استاذة تدريسية في مركز دراسات البصرة والخليح العربي, ماجستير سنة 2001, دراسة وظائفية , مقالات غادة السمان الادبية , الدكتوراه سنة 2007 فن الخبر في السرد العربي القديم.